تونس- تعديلات انتخابية مثيرة للجدل وحراك مجتمعي متصاعد

في الآونة الأخيرة، وبعد تصديق مجلس نواب الشعب التونسي على تعديل القانون الانتخابي، وسط معارضة شديدة واحتجاجات واسعة من مختلف الأطياف، بما في ذلك المحامون والقضاة والإعلاميون والسياسيون وشريحة من المواطنين الذين أعربوا عن قلقهم العميق بشأن تغيير قواعد اللعبة الانتخابية قبل وقت قصير من موعد الاقتراع.
وها قد تحقق مراد الرئيس قيس سعيد، بتحقيق مبتغاه في سحب صلاحيات المحكمة الإدارية المستقلة والمحايدة في الفصل في النزاعات الانتخابية، وتحويلها إلى القضاء العدلي عبر محكمة الاستئناف، وهو ما يعتبره معارضوه "قضاء التعليمات"، وذلك بهدف قطع الطريق على أي طعون محتملة في نتائج الانتخابات القادمة المقرر إجراؤها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول. وقد صرح النائب في البرلمان، يوسف طرشون، بأن "تسريع هذا القانون (القانون الانتخابي) يأتي لحماية الدولة بعد التهديد بإبطال نتائج الانتخابات والطعن فيها"، وهي بحق بدعة برلمانية، فالطعن في النتائج هو جزء لا يتجزأ من العملية الانتخابية وآلية أساسية في الصراع الديمقراطي.
نجح الرئيس التونسي، قيس سعيد، في تمرير ما وصفه أستاذ القانون والمحامي والوزير السابق، عبدالوهاب معطر، بـ "المجزرة القانونية"، مشيرًا إلى التعديل "المتعسف" للقانون الانتخابي. وتمكن الرئيس من "الاستقواء على خصومه بواسطة المؤسسة التشريعية المنتخبة (البرلمان)"، كما صرح المحامي سمير ديلو، في سابقة هي الأولى من نوعها في تونس منذ ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011.
الآن، وفي خضم هذا المشهد المعقد، يستغل الرئيس سعيد، أيما استغلال، ضعف خصومه وتشتتهم وتضارب رؤاهم في مختلف القضايا. كما يستفيد بشكل جلي وقوي من الترهل الذي أصاب العديد من المؤسسات السياسية، بدءًا بالقضاء، ومرورًا بالهيئات النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، ووصولًا إلى ما يعرف بـ "المجتمع المدني"، من منظمات وجمعيات، التي خفت صوتها وتراجعت إلى الصفوف الخلفية.
يزيد الطين بلة حالة الانقسام والوهن التي تعصف بالأحزاب والمكونات السياسية، وما تشهده من مواقف وخيارات وعلاقات وتحالفات بائسة، وانقلاب في المواقف، بحيث يصعب التمييز بين ما هو مبدئي وما هو تكتيكي؛ بسبب تلون البعض كالحرباء، وتغييرهم لمواقفهم كما يغيرون ملابسهم.
استحقاق انتخابي باهت
في هذه اللحظات الحاسمة، التي تفصل البلاد وشعبها عن انتخابات رئاسية مصيرية بكل المقاييس، يبدو أن المناخ السياسي والإعلامي لا يعكس وجود استحقاق انتخابي حقيقي.
لا توجد نقاشات جادة حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي، الذي تفاقم عما كان عليه قبل هيمنة القصر الرئاسي على مفاصل الدولة، ولا صراعات برامجية بين المرشحين للرئاسة، ولا حوارات إعلامية ثرية، كتلك التي كانت تميز المشهد التونسي في العقد الماضي، بين المرشحين وأحزابهم ومثقفيهم وسياسييهم، في تنافس حقيقي، كانت الفعاليات والمهرجانات الانتخابية تعكسه بوضوح، وتستقطب اهتمام الإعلام الدولي والنخب العربية.
لقد حُسم الأمر، والرئيس التونسي يمضي قدمًا نحو ولاية رئاسية ثانية لا محيص عنها. ولاية لن ينافسه فيها المرشح زهير المغزاوي (حركة الشعب)، الذي تشير استطلاعات الرأي إلى تذيّله قائمة نوايا التصويت، ولا المرشح العياشي زمال (رئيس حركة عازمون)، القابع في السجن بتهمة "تدليس التزكيات الشعبية"، وفقًا للاتهامات الرسمية الموجهة إليه، وهو الأمر الذي تعتبره هيئة الدفاع عنه "باطلًا". فكيف لرجل خلف القضبان أن يحصد أصواتًا مؤثرة في المشهد؟ حتى في الدول الديمقراطية العريقة، لم يحدث هذا قط، فما بالك في بلد يشهد تراجعًا ديمقراطيًا منذ ثلاث سنوات؟
لن تكون بيعة للرئيس الحالي، قيس سعيد، كما أرادها بعض أتباعه، ولن تكون بنسب تصويت عالية، كما توقع السفير الأميركي السابق، غوردون غراي، في تصريح صحفي لافت قبل انطلاق المسار الانتخابي الحالي.. بل هي عملية تصويت عادية في ظل وضع استثنائي يثير الكثير من التساؤلات.
لكن كل ذلك ليس سوى وجه واحد للعملة التونسية الراهنة؛ وجه لا يليق بسمعة تونس، ولا بالفكر السياسي لنخبها وطبقتها السياسية، ومثقفيها وإعلامييها، الذين كانوا على الدوام مصدر إلهام للعديد من النخب العربية، وشكلوا على مدى الخمسين عامًا الماضية نقطة مضيئة في سماء العالم العربي والإسلامي، بفضل الحراك السياسي والقانوني والدستوري الذي أحدثوه في المنظومات العربية المتعددة، والتي كانت تنظر إلى هذا البلد الصغير جغرافيًا على أنه منبع للإبداع الفكري والسياسي.
فهذا البلد هو الذي أنجب المؤرخ عبدالرحمن بن خلدون، والأديب الكبير محمود المسعدي، والمفكر التحديثي هشام جعيط، و"فقيه القرآن الكريم" محمد الطاهر بن عاشور، كما يلقب في الأوساط الجامعية والأكاديمية، إلى جانب المفكر الإسلامي راشد الغنوشي (بعيدًا عن التجاذبات السياسية والحزبية المحيطة به)، والسينمائي الكبير الطاهر شريعة، والمفكر السياسي محمد المنصف المرزوقي، والشاعر الاستثنائي أبو القاسم الشابي، والقائمة تطول وتزداد ثراء.
وتكفي الإشارة في هذا المقام إلى أن تونس كانت أول دولة عربية تضع دستورًا، وتؤسس جامعة دينية عريقة هي الجامعة الزيتونية، وتنشئ منظمة حقوقية رائدة في أفريقيا، وهي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وتؤسس قبل ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل (الأقدم في العالم العربي وأفريقيا)، وترفع من مكانة المرأة، قانونًا وثقافة وموقعًا وحجمًا، بصرف النظر عن بعض المتغيرات والتطورات وأخطاء التطبيق، من خلال ما يعرف بـ "مجلة الأحوال الشخصية".
ولكن، للأسف الشديد، فإن الزائر لتونس اليوم، لا يكاد يجد ما يشير إلى هذه الرموز والمعاني والسياقات، بل يصطدم بمعارك "طواحين الهواء"، التي لا تسفر إلا عن موجات سلبية، لا لون ولا طعم ولا رائحة لها، سوى أنها تعيد إنتاج اللامعنى وتجريف الوعي.
بداية تعافي الجسم القضائي
إلا أن هذا الوجه القاتم من العملة التونسية، والذي أثار حيرة واسعة لدى التونسيين بشأن مستقبل بلادهم وقيمة العيش المشترك، الذي دافعت عنه أجيال متعاقبة، وهم يرونه اليوم يتآكل، ليس بفعل مطالب سياسية من المعارضة، بل بفعل خطاب الدولة والسلطة القائمة، يخفي وراءه وجهًا آخر بالغ الأهمية، قد يكون من الأسباب الرئيسية في نهضة جديدة للبلاد.
فقد كشفت الأسابيع الماضية، وخاصة منذ اقتراح مشروع تعديل القانون الانتخابي، عن بوادر تحرك قوي داخل الجسم القضائي. حيث رفضت جمعية القضاة، ونقابة القضاة، والمحكمة الإدارية، وحتى المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، الذي عينه الرئيس التونسي نفسه كبديل للمجلس المنتخب السابق، مشروع القانون واعتبروه "غير دستوري"، و"ينافي العملية الديمقراطية"، و"يشكل ضربة لنزاهة الانتخابات"، و"يمس بحق التقاضي"، و"يقوض أحد مسارات العملية الانتخابية، عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة"، في إشارة إلى المحكمة الإدارية، كما ورد في بيان جمعية القضاة.
هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك منذ الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021، وهو أمر بالغ الأهمية في سياق الحديث عن "تعافي" الجسم القضائي، الذي عرف تاريخيًا بولائه للسلطة، أو خضوعه لإملاءاتها ضد خصومها السياسيين. فهذا الجسم يتخذ اليوم موقفًا لافتًا، ويرفع صوته بـ "لا" مدوية، ضد "الأمر الواقع" الذي فرضته السلطة لتغيير "قواعد اللعبة" بينها وبين المعارضة.
مؤشرات على حالة جديدة:
- خروج بعض الفعاليات والمنظمات من صمتها المطبق، وعلى رأسها المنظمات الحقوقية، وجمعية القضاة، ونقابة القضاة، والمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، والمحكمة الإدارية، والجمعيات الناشطة في المجال الاجتماعي والنسوي والشبابي. وهو خروج مهم من حيث التوقيت، والموقف من السلطة، ومن تطورات المشهد ومآلاته.
- بداية التنسيق بين الأحزاب، وخاصة تلك المتناقضة والمتصارعة فيما بينها؛ لأسباب سياسية أو أيديولوجية، حتى إنّ بعضها كان يضع شروطًا للجلوس مع هذا الطرف أو ذاك. صحيح أن هذا التنسيق ما يزال في بداياته، لكنه مؤشر على إمكانية تطوره خلال المرحلة المقبلة.
- عودة الشباب التونسي إلى الساحات مجددًا، بعد غياب دام عدة سنوات، نتيجة تقييمه السلبي لمسارات الثورة ومآلاتها. لقد أظهرت الفعاليات التي نُظمت حتى الآن تصميمه الواضح على الدفاع عن الحريات، واستعادة الديمقراطية، ورفض الحكم الفردي. وهي مكاسب بذل هذا الشباب من أجلها الغالي والنفيس، دمًا ودموعًا وذكريات أليمة، وآمالًا عظامًا في تغيير حقيقي، وفي تونس أفضل.
- تحركات داخل المنظمة النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل). وإن كانت تبدو محدودة، إلا أن سياقها والشخصيات التي تقودها والرافضة لنهج القيادة النقابية الحالية (المنحازة للسلطة) تؤكد أن عملية تصويب للمسار تجري بجدية.
وما يتسرب من معلومات من داخل هذه المنظمة الكبيرة والعريقة حول توجهات المؤتمر القادم للاتحاد، والذي قد يعقد قبل موعده الاعتيادي، يعكس حراكًا مهمًا وترجمة لأفق جديد لهذه المنظمة، وبالتالي لدورها في السياق السياسي والاجتماعي العام.
- ارتفاع وتيرة الأصوات السياسية والأكاديمية التي كانت صامتة منذ "انقلاب يوليو/تموز" 2021. فقد اعتقدت هذه الأصوات أن عملية تصحيح قد بدأت، لكنها اكتشفت لاحقًا أن ما حدث كان جزءًا من سيناريو محكم للإلتفاف على التجربة التونسية، وإغلاق "القوس الديمقراطي"، والعودة عن "الثورة التونسية"، وما حملته من آمال وتطلعات شعبية واسعة.
هؤلاء استيقظوا اليوم لينضموا إلى الحراك السياسي المطالب بوقف العبث بمقدرات الديمقراطية وتبعاتها القانونية والدستورية والهيكلية، واستئناف التأسيس الجديد لـ "دولة المجتمع والحريات"، كما يصفونها. في إشارة إلى التلازم بين المسار السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، في عملية البناء التي كانت من أهداف الثورة، وتلاشت لاعتبارات كثيرة خلال السنوات العشر الماضية.
- حدوث عملية فرز في المشهد التونسي، كشفت من خلالها "الأصوات الزائفة" في علاقتها بالديمقراطية والحريات وحماية الدستور واحترام القانون. تلك الوجوه التي عملت على إفساد الأوضاع لغايات سياسية وأيديولوجية، ولحسابات حزبية ومصلحية ضيقة. مما يجعل الساحة اليوم تتجه نحو تحالفات جديدة، ستظهر ملامحها بعد الاستحقاق الانتخابي القادم.
- وإذا أضفنا إلى ذلك المظاهرات والاحتجاجات التي اندلعت في الأسابيع الأخيرة، فإنها تمثل منعطفًا جديدًا في السياق السياسي التونسي، بل وشكلت مصدر إزعاج للسلطة وأركانها، وأعطت إشارة واضحة بأن هناك "قوى" لا تموت، وأن صمتها خلال السنوات القليلة الماضية كان مدروسًا، ولم يكن "تفويضًا مطلقًا" كما يقال للحكم ودوائره. بل هو من قبيل "صمت الحكماء"، على رأي الفيلسوف أرسطو، أو "وقفة تأمل"، كما يحلو للمثقفين أن يصفوها.
لقد تغيرت تونس اليوم عما كانت عليه قبل "انقلاب يوليو/تموز"، بفضل هذا الحراك النخبوي المدعوم شعبيًا، وإن كان بأعداد متواضعة لكنها لافتة. فالمراقب للمشهد خلال السنوات الثلاث الماضية يدرك أن الوضع قد تبدل، وأن القوى الفاعلة قد تحركت، وأن "إرادة التغيير"، كما يصفها معارضو السلطة، أقوى من أي وقت مضى، سلميًا وديمقراطيًا وقانونيًا وسياسيًا.
ويبقى على القوى السياسية المعارضة للسلطة أن تتبنى مشروعًا سياسيًا يليق بالمرحلة الراهنة. وأن تعمل على بناء تراكم نضالي بوتيرة منتظمة، وأن تسعى قبل كل شيء إلى البحث عن قواسم سياسية عميقة ومبدئية تجعل التغيير ممكنًا وليس مجرد إرادة.
فهل ترتقي النخب التونسية، بكل أطيافها، إلى مستوى تحديات المرحلة ومتطلباتها، خاصة في ظل التحولات التي بدأت تلوح في الأفق في المنطقة؟ أم ينجح رئيس الجمهورية، ومن خلفه أركان السلطة والأجهزة، في إخماد هذا الحراك والمضي قدمًا نحو مستقبل لا تزال هويته وأبعاده وملامحه غير واضحة؟